مكالمة لم يُرَد عليها - الجزء الثاني: مواجهة تحت سقف المستشفى | دراما إنسانية

 لقراءة الجزء السابق: 

- مكالمة لم يُرَد عليها - الجزء الأول: بريق المدينة الزجاجية.


الفصل الأول: ليل طويل في الانتظار:

   كانت ممرات المستشفى تفوح منها رائحة المعقمات الممزوجة بالقلق. جلس فيصل على مقعد بلاستيكي بارد في غرفة الانتظار، بجوار والدته التي كانت تتمتم بآيات قرآنية بصوت خافت وعيناها مغرورقتان بالدموع. أخته نورة جلست في الجهة المقابلة، تتفحص هاتفها بجمود، لكن نظراتها العرضية نحو فيصل كانت تحمل مزيجًا من اللوم والأسى. الصمت بينهم كان أثقل من جدران المستشفى نفسها.

فيصل ووالدته وأخته نورة يجلسون في غرفة انتظار المستشفى، يبدو عليهم القلق والحزن.

كلما مرّ طبيب أو ممرضة، كانت قلوبهم تقفز، ثم تعود لتهبط بخيبة أمل. علم فيصل من نورة أن الحادث كان اصطدامًا عنيفًا بينما كان والده عائدًا من زيارة لأحد الأقارب في قرية مجاورة. السائق الآخر، شاب متهور، نجا بإصابات طفيفة، بينما والده يرقد الآن في العناية المركزة، غارقًا في غيبوبة عميقة.

حاول فيصل أن يضع يده على كتف والدته. قال بصوت خافت: "سيكون بخير يا أمي، أبي قوي." سحبت والدته كتفها بحركة لا إرادية، وقالت دون أن تنظر إليه، ودموعها تسيل بصمت: "كان يحتاجك يا فيصل... كان يحتاج أن يسمع صوتك." اخترقت كلماتها قلبه كسهم. لم يجد ما يرد به، فكل كلمة دفاع ستبدو فارغة وجوفاء.

الفصل الثاني: كلمات لم تُقل:

   في وقت لاحق، عندما ذهبت والدتهما لتصلي وتستريح قليلاً، انفجرت نورة في وجه فيصل. قالت نورة بصوت يرتجف من الغضب المكتوم: "هل أنت مرتاح الآن؟ هل اجتماعاتك وبريق مدينتك الزجاجية أهم من كل هذا؟ أمي لم تنم منذ يومين، وأنت بالكاد تفكر في الاتصال!" وقف فيصل متصلبًا أمام اتهامات أخته. كانت محقة في كل كلمة. أكملت نورة: "كانت تتصل بك لتخبرك أن الطبيب نصح أبي بإجراء فحوصات عاجلة للقلب الأسبوع الماضي، كان قلقًا ويريدك بجانبه، لكنك كالعادة، مشغول جدًا عن سماعنا." صعق فيصل. هذا ما كانت تحاول أمه أن تخبره به في تلك المكالمات التي تجاهلها ببرود. لم يكن الأمر مجرد دردشة عادية. كان أمرًا يتعلق بصحة والده، وهو لم يعره أي اهتمام. أخرج هاتفه، ونظر إلى سجل المكالمات الفائتة من أمه، شعر بوخز مؤلم في صدره مع كل إشعار تجاهله. تذكر كيف كان يرى اسمها على الشاشة ويضغط زر الرفض، واعدًا نفسه بأنه سيعاود الاتصال لاحقًا، وهو "لاحقًا" الذي لم يأتِ أبدًا.

الفصل الثالث: بصيص أمل أم سراب؟:

   بعد ساعات بدت كدهر، خرج الطبيب المعالج من غرفة العناية المركزة. توجه إليهم مباشرة. قال الطبيب بهدوء احترافي: "الحالة ما زالت حرجة، ولكن هناك بعض الاستقرار في المؤشرات الحيوية. الضغط استجاب للعلاج بشكل طفيف. هذا لا يعني أنه تجاوز مرحلة الخطر، ولكنها علامة صغيرة قد تكون إيجابية. علينا الانتظار والمراقبة خلال الـ 24 ساعة القادمة." تشبثت والدة فيصل بهذه الكلمات

فيصل ووالدته ونورة يتحدثون مع طبيب في ممر المستشفى، يبدو عليهم الترقب.

كالغريق الذي يرى قشة. أما فيصل، فشعر بمزيج من الأمل الحذر والخوف المتزايد من أن يكون هذا الاستقرار مجرد هدوء يسبق عاصفة أسوأ. حاول فيصل أن يكون عمليًا. بدأ يسأل الطبيب عن تفاصيل الحالة، عن خيارات العلاج، وعن الإجراءات اللازمة. لأول مرة منذ وصوله، شعر بأنه يفعل شيئًا ذا معنى، بدلاً من مجرد الجلوس والغرق في شعوره بالذنب. لكن حتى هذا الدور الجديد بدا له كقناع يخفي عجزه الحقيقي.

الفصل الرابع: ثمن الإهمال:

   في إحدى لحظات الهدوء النادرة، جلست والدة فيصل بجانبه، وقد بدا عليها الإنهاك التام. قالت بصوت متعب: "يا فيصل، مدينتك تلك أخذتك منا قبل أن تأخذك فعليًا. كنتَ هنا بجسدك أحيانًا، لكن عقلك وقلبك كانا هناك دائمًا. هل تذكر آخر مرة جلست معنا وتحدثت حقًا؟ ليس عن مشاريعك ونجاحاتك، بل عنا... عن حياتنا البسيطة التي لم تعد تهمك." أطرق فيصل رأسه، عاجزًا عن الرد. كانت كلماتها سياطًا تجلد ضميره. أكملت والدته: "في تلك الأيام التي كنت أتصل بك فيها، لم أكن أريد فقط أن أخبرك عن فحوصات أبي. كنت أريد أن أسمع صوتك، أن أشعر أنك ما زلت ابني الذي أعرفه. كنت أشعر بالوحدة... وأبوك كان يشعر بها أكثر." أدرك فيصل حجم الفجوة التي صنعها بينه وبين عائلته. لم يكن الأمر مجرد مكالمات لم يُرَد عليها، بل كان حياة كاملة تم تجاهلها، وقلوبًا تم إهمالها. "بريق المدينة الزجاجية" الذي كان يسعى خلفه، جعله أعمى عن الأنوار الحقيقية في حياته. أمسك بيد والدته، وقبّلها بحرارة، والدموع تنهمر من عينيه لأول مرة منذ سنوات. قال فيصل بصوت مختنق بالبكاء: "أنا آسف يا أمي... آسف على كل شيء. أعدكِ... أعدكِ أن كل شيء سيتغير."

الفصل الخامس: مكالمة جديدة:

   مع بزوغ فجر اليوم التالي، وبينما كان فيصل يغفو للحظات على الكرسي بجانب غرفة والده، رن هاتفه. لم يكن رقمًا غريبًا، بل كان رقم مديره المباشر من "المدينة الزجاجية". تردد فيصل للحظة، ثم رد. جاء صوت مديره حادًا وعمليًا كالعادة: "فيصل، أتمنى أن تكون الأمور بخير لديك. ولكن لدينا مشكلة طارئة في مشروع البرج. العميل الرئيسي قادم بعد غد، وأنت الوحيد الذي يستطيع التعامل مع متطلباته المعقدة. يجب أن تكون هنا صباح الغد على أقصى تقدير." شعر فيصل وكأن الأرض تميد به. والده ما زال بين الحياة والموت، عائلته تنهار، وهو الآن مطالب بالعودة إلى تلك الحياة التي كادت أن تدمر كل شيء ثمين لديه. نظر إلى باب غرفة العناية المركزة، ثم إلى والدته التي كانت نائمة بعمق مرهق على كتف نورة. أي قرار سيتخذه الآن سيحدد مصيره ومصير علاقته بأسرته إلى الأبد. "مكالمة لم يُرَد عليها" قادته إلى هنا، ومكالمة جديدة تضعه أمام أصعب اختبار.


(نهاية الجزء الثاني)

   وجد فيصل نفسه في مواجهة مباشرة مع عواقب إهماله، حيث كشفت له أخته ووالدته عن عمق الجرح الذي تسبب فيه غيابه وانشغاله. وبينما يحاول لملمة ما يمكن إصلاحه وتقديم الدعم لوالده الذي يصارع من أجل الحياة، تأتيه مكالمة من عمله تضعه أمام خيار مصيري. هل سيعود إلى "بريق المدينة الزجاجية" تاركًا عائلته في أمس الحاجة إليه، أم أنه سيتخذ قرارًا يغير مسار حياته بالكامل؟ الإجابة ستحددها الأيام القادمة...

[>> لقراءة الجزء الثالث والأخير: قرار تحت سماء المرجان (سيتم إضافة الرابط عند النشر)]

مدونة السطر التالي..! https://theneextline.blogspot.com

تعليقات