بُستان المُرّ - الجزء الأول: همسات من الحِجر | مغامرات وتاريخ على طريق البخور

 "من قلب التاريخ النابض في الجزيرة العربية، ومن دروب البخور العابقة بالأسرار، تدعوكم مدونة 'السطر التالي..!' لمغامرة جديدة تمتزج فيها روعة الماضي بلهيب الصحراء. نقدم لكم الفصل الأول من 'بُستان المُرّ'..."

الشاب النبطي زيد ينحت واجهة مقبرة أثرية في الحِجر (مدائن صالح)، وينظر بحلم نحو الصحراء

الفصل الأول: حلم النحات: 

   كانت الشمس ترسل أشعتها اللاهبة على صخور الحِجر الرملية الشاهقة، بينما كانت إزميل "زيد" ومطرقته يرسلان أنغامهما الإيقاعية القاسية في صمت الظهيرة. كان شابًا نبطيًا في أوائل العشرينيات، قوي البنية، ورث عن أبيه وجده مهارة نحت الحجر التي جعلت من مدينته، الحِجر (مدائن صالح)، درة معمارية في قلب الصحراء. كانت أنامله تحول الصخر الأصم إلى تفاصيل مذهلة تزين واجهات المقابر الضخمة المنحوتة في الجبال – أعمدة كورنثية، نسور محلقة، تيجان متقنة. كان فنانًا بالفطرة، لكن روحه كانت تتوق لشيء أبعد من تخليد ذكرى الموتى الأثرياء. كان يحلم بالحياة، بالمغامرة، بالعالم الواسع الذي تمتد دروبه خلف الأفق الصحراوي اللامتناهي.

قبل أسابيع قليلة، وبينما كان جده يحتضر على فراشه، استدعاه الجد إليه. الرجل العجوز، الذي كانت يداه يومًا ما تنحت الصخر بدقة وقوة، كانت الآن ترتجف وهو يضغط على قطعة جلدية صغيرة وباهتة في يد زيد. "اسمعني يا بني،" همس بصوت ضعيف لكن عينيه لمعتا ببريق غريب، "هذه ليست مجرد خريطة... إنها الطريق إلى 'بُستان المُرّ'... حيث تنبت دموع الأشجار التي تشفي الروح... اتبع النجم الذي لا يغيب... واحذر الحراس... إنهم... يحمون الحياة..." ثم أغمض عينيه للمرة الأخيرة، تاركًا زيدًا مع حزنه، وقطعة جلد غامضة، وهمسات عن بستان أسطوري ونجم وحراس.

مشهد صاخب لقافلة بخور ضخمة تستعد للرحيل قرب الحِجر، تظهر فيه الجمال والتجار والحراس من أعراق مختلفة.

الفصل الثاني: الانضمام إلى القافلة: 

   جاءت الفرصة بعد أسابيع قليلة، عندما وصلت أخبار عن تجمع قافلة بخور ضخمة بالقرب من الحِجر، تستعد للمسير جنوبًا نحو ممالك حضرموت وسبأ الغنية، قلب تجارة اللبان والمرّ. شعر زيد بأن القدر يناديه. اتخذ قراره الصعب. ودّع أدوات نحته التي كانت تمثل كل ما عرفه، حزم أمتعة قليلة، ووضع قطعة الجلد التي تحمل الخريطة في جيب سري داخل ثوبه.

كان مشهد تجمع القافلة مذهلاً وفوضويًا في آن واحد. مئات الجمال ترغو، تجار من كل حدب وصوب يصرخون بالأسعار بلغات مختلفة – نبطية، لاتينية، آرامية، لهجات جنوبية غريبة. روائح البخور الثمين تمتزج برائحة العرق والغبار والحيوانات. استطاع زيد، بفضل بنيته القوية وخبرته بالتعامل مع الأحمال الثقيلة من أيام نحت الحجر، أن يجد لنفسه مكانًا كعامل مساعد ضمن حراس القافلة. هنا لمح لأول مرة "فريد"، قائد الحرس المساعد، رجل في منتصف العمر، وجهه مجرح كخريطة للدروب التي سلكها، وعيناه الصغيرتان حادتان تراقبان كل شيء بصمت. كما لفتت انتباهه "ليلى"، تاجرة ذات ملامح جنوبية مميزة وعينين ذكيتين، كانت تفحص بضاعة من التوابل النادرة بعناية فائقة، محاطة بحارسين شخصيين قويي البنية. أدرك زيد أنه دخل عالمًا جديدًا ومعقدًا، عالمًا تحركه المصالح والمخاطر بقدر ما تحركه التجارة.

قافلة البخور تسير ببطء عبر صحراء شاسعة وقاحلة تحت شمس حارقة.

الفصل الثالث: بداية المخاطر: 

   مع شروق شمس يوم قائظ، تحركت القافلة أخيرًا، كأفعى طويلة بنية اللون تزحف ببطء جنوبًا. كانت الأيام الأولى هي الأصعب. لهيب الشمس الذي لا يرحم، الرمال التي تتسلل إلى كل شيء، شح الماء الذي يتم توزيعه بحصص دقيقة، ووتيرة السير البطيئة والمملة التي لا يكسرها سوى جمال الصحراء القاسي والمترامي الأطراف. تعلم زيد بسرعة قوانين القافلة غير المكتوبة: العمل الشاق، الطاعة، والحذر الدائم.

كان يراقب ويتعلم بصمت. يدرس كيف يقرأ فريد والحراس الآخرون آثار الأقدام في الرمال، كيف يختارون مكان التخييم، كيف يتعاملون مع الجمال العنيدة. وفي الليل، عندما تخيم القافلة وتشتعل النيران المتفرقة وتتعالى أصوات المسافرين المنهكين، كان زيد يبتعد قليلاً عن الضوء والضجيج، يتخذ لنفسه مكانًا منعزلاً تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم الساطعة بشكل لا يصدق، ويخرج قطعة الجلد الثمينة. كان يحاول مطابقة الرموز والخطوط الغريبة المرسومة عليها مع مواقع النجوم التي علمها له جده، خاصة ذلك "النجم الذي لا يغيب" (نجم الشمال على الأرجح)، باحثًا عن أي مفتاح، أي بداية لفك لغز الطريق إلى "بُستان المرّ".

زيد يدرس خريطته السرية بعناية على ضوء نجوم الصحراء ليلاً في مخيم القافلة.

الفصل الرابع: بذور الشك: 

   لكن السرية في مكان مزدحم كقافلة تسير في العراء لم تكن سهلة. لاحظ زيد أن أسئلته العابرة لبعض المسافرين الأكثر خبرة عن آبار منسية أو نقوش صخرية قديمة في مناطق معينة تثير أحيانًا نظرات غريبة أو إجابات مراوغة. وفي إحدى الليالي، بينما كان منهمكًا في دراسة خريطته تحت النجوم، شعر بأن هناك من يراقبه من بين الظلال. لم يرَ أحدًا بوضوح، لكن الشعور بالقلق جعله يخفي قطعة الجلد بسرعة ويعود إلى دفء النار وحشد الناس.

لم يكن مخطئًا. في اليوم التالي، اقترب منه "جابر"، مساعد قائد القافلة المعروف بدهائه وقسوته، وسأله بلهجة ودودة بشكل مريب عن اهتمامه الزائد بالطرق القديمة. "مجرد فضول يا سيدي،" أجاب زيد بحذر، "تاريخ أرضنا غني بالأسرار." رمقه جابر بنظرة فاحصة قبل أن يمضي، لكن زيد شعر بأن إجابته لم تقنعه. وفي نفس اليوم، لاحظ أن فريد، قائد الحرس المساعد، يراقبه هو الآخر بنظرات متقطعة ولكنها ثاقبة، كأنه يحاول تقييم هذا الشاب النحات القوي الذي يبدو أنه يخفي شيئًا أكثر من مجرد الرغبة في العمل وكسب الرزق. أدرك زيد أن رحلته لن تكون مجرد صراع ضد قسوة الصحراء، بل أيضًا ضد فضول وجشع البشر الذين يرافقونه في هذه المسيرة الطويلة نحو الجنوب المجهول. لقد نبتت بذور الشك، وبدأت المخاطر الحقيقية للتو.


(نهاية الجزء الأول)

لقد ترك زيد ماضيه خلفه وانطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر على طريق البخور الأسطوري، حاملاً سر خريطة قديمة ووعدًا ببستان أسطوري. لكن الصحراء ليست هي التحدي الوحيد، فالعيون تراقبه والشكوك تحوم حوله داخل القافلة نفسها. كيف سيتعامل زيد مع هذه المخاطر المتزايدة؟ وهل سيتمكن من كشف المزيد من أسرار خريطته في الجزء التالي؟

[>> لقراءة الجزء الثاني: عبر الرمال الملتهبة (اضغط هنا)]


مدونة السطر التالي..! https://theneextline.blogspot.com

تعليقات