![]() |
هدية من الماضي. |
الفصل الأول: طرد على العتبة:
كان العم صالح رجلاً قد تجاوز السبعين، يعيش وحيدًا في منزله القديم ذي الفناء الصغير في إحدى حارات "مدينة الياسمين" الهادئة. حياته تسير على وتيرة واحدة، روتين يومي لا يتغير إلا نادرًا: صلاة الفجر في المسجد القريب، ثم شراء الخبز وبعض لوازم البيت، يليه فطور متواضع، وقراءة ما تيسر من القرآن والصحف، ثم قيلولة الظهر، وهكذا. لم يكن يتوقع أن شيئًا سيأتي ليعكر صفو هذا الهدوء الرتيب، أو ربما، ليضيف إليه لونًا لم يره منذ زمن بعيد.
في صباح أحد الأيام الربيعية، وبعد عودته من المسجد، وجد العم صالح طردًا صغيرًا، مغلفًا بورق بني بسيط، موضوعًا بعناية أمام عتبة بابه الخشبي العتيق. لم يكن عليه اسم مرسل، ولا أي علامة تدل على مصدره. فقط اسمه، "العم صالح"، مكتوبًا بخط يد أنيق وواضح. بتردد، التقط الطرد وأدخله معه. جلس على أريكته القديمة، وفتحه ببطء. لم يكن بالداخل سوى سيارة لعبة صغيرة مصنوعة من الصفيح، من تلك النوعية التي كان يلعب بها الأطفال قبل نصف قرن أو أكثر. كانت السيارة زرقاء، صدئة قليلاً في بعض أجزائها، لكنها لا تزال تحتفظ ببهائها القديم. أمسك العم صالح بالسيارة الصغيرة، وشعر بقشعريرة خفيفة تسري في جسده. من أين أتت هذه؟ ومن الذي يعرف أنه كان يملك واحدة تمامًا مثلها في طفولته، كانت لعبته المفضلة؟.
الفصل الثاني: مفاتيح الذاكرة:
لم تكن تلك هي الهدية الأخيرة. في الأيام التالية، توالت الهدايا الصغيرة الغامضة على عتبة باب العم صالح. في يوم، وجد علبة صغيرة من حلوى "اللبنية" التي كانت تصنعها والدته الراحلة بنفس الطريقة. وفي يوم آخر، زهرة ياسمين مجففة بعناية بين ورقتي كتاب قديم، تمامًا كتلك التي كان يجمعها من فناء منزلهم الكبير في الحي القديم الذي هجروه منذ عقود. كل هدية كانت كمفتاح يفتح بابًا مغلقًا في دهاليز ذاكرته المنسية. بدأت صور من الماضي تتراقص أمام عينيه بوضوح لم يعهده منذ زمن. رأى نفسه طفلاً يركض في الحارة بتلك السيارة الصفيح، وشابًا يتقاسم حلوى اللبنية مع صديق عمره "أحمد" تحت شجرة الياسمين الكبيرة. أحمد... يا إلهي، كم اشتاق إليه! فرقت بينهما الأيام وظروف الحياة القاسية، ولم يعد يعرف عنه شيئًا منذ سنوات طويلة. بدأ العم صالح ينتظر هذه الهدايا بشوق وقلق خفي. من هذا الذي يعرف تفاصيل حياته الدقيقة إلى هذا الحد؟ من هذا الذي ينبش في ماضيه بهذه الطريقة اللطيفة والمؤثرة؟
الفصل الثالث: الخيط الأخير:
في صباح يوم الجمعة، كانت الهدية مختلفة. لم تكن شيئًا ماديًا، بل كانت ظرفًا أبيض أنيقًا. بداخله، لم تكن هناك رسالة، بل صورة فوتوغرافية قديمة بالأبيض والأسود. الصورة كانت له ولصديقه أحمد، وهما في مقتبل العمر، يبتسمان للكاميرا أمام باب دكان صغير
لبيع الكتب المستعملة، كانا يترددان عليه كثيرًا. وفي ظهر الصورة، كُتبت عبارة واحدة بخط اليد نفسه الذي كان على الطرود: "بعض الأماكن لا تزال تحتفظ بأرواحنا القديمة. زُرها، فقد تجد ما يسرك." وتحتها، عنوان الدكان القديم. ارتعش قلب العم صالح. الدكان! هل ما زال موجودًا؟ وكيف عرف المرسل بأمر هذه الصورة وهذا المكان تحديدًا؟ لم يعد الأمر مجرد ذكريات، بل دعوة صريحة.
الفصل الرابع: وجه من الماضي:
بعد صلاة الجمعة، وبخطى أثقلها الشوق والترقب أكثر من سنوات عمره، توجه العم صالح إلى الحي القديم. بحث عن الدكان طويلاً، فكثير من معالم الحي قد تغيرت. وأخيرًا، وجده! كان لا يزال كما هو تقريبًا، واجهته الخشبية البالية، واسمه الباهت "مكتبة كنوز المعرفة". تردد قليلاً، ثم دفع الباب ودخل. كانت رائحة الورق القديم هي نفسها التي علقت بذاكرته. لم يكن هناك أحد في الدكان سوى شاب في مقتبل العمر، يجلس خلف طاولة خشبية قديمة، يقرأ كتابًا. رفع الشاب رأسه عندما شعر بدخول العم صالح، وابتسم ابتسامة ودودة. قال الشاب: "أهلاً بك يا عم. هل تبحث عن شيء معين؟" نظر العم صالح إلى الشاب جيدًا. كانت ملامحه تحمل شيئًا مألوفًا بشكل لا يصدق، شيء يذكره بصديقه أحمد. تلعثم العم صالح قليلاً، ثم أخرج الصورة من جيبه، وقال بصوت مرتعش: "جئتُ... جئتُ بسبب هذه الصورة." اتسعت ابتسامة الشاب أكثر، وظهرت في عينيه لمعة ذكية. قال بهدوء: "كنت أنتظرك يا عم صالح. جدي أخبرني الكثير عنك، وعن هذه الصورة تحديدًا." صُعق العم صالح. قال بدهشة: "جدك؟ هل... هل تقصد أحمد؟" أومأ الشاب رأسه، وقال: "نعم. أنا حفيده، واسمي خالد. جدي أحمد توفاه الله منذ عامين. وقبل وفاته، ترك لي صندوقًا صغيرًا مليئًا بذكرياته، ووصية بأن أبحث عنك، وأن أعيد إليك بعضًا من هذه الذكريات التي كان يعتز بها كثيرًا. كان يقول دائمًا إن الصداقة الحقيقية لا تموت." كان خالد هو من يرسل الهدايا، مستلهمًا إياها من قصص جده ومن محتويات ذلك الصندوق الثمين. كان يأمل أن تقود هذه الهدايا العم صالح إليه، ليتعرف على صديق جده الذي طالما سمع عنه. جلس العم صالح على أقرب مقعد، والدموع تنهمر من عينيه بصمت. لم تكن دموع حزن، بل دموع فرح وشوق وامتنان. لقد وجد خيطًا يربطه بماضيه الجميل، ووجد في هذا الشاب امتدادًا لصداقة ظن أنها ضاعت إلى الأبد. قضى العم صالح ساعات طويلة في ذلك اليوم يتحدث مع خالد، يستعيدان ذكريات أحمد، ويضحكان معًا وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد. لم تعد هدايا خالد مجهولة العنوان، بل أصبحت جسرًا حياً بين الماضي والحاضر، وبذرة لأمل جديد في قلب العم صالح الذي لم يعد يشعر بالوحدة.
(نهاية القصة)
أحيانًا، تأتينا رسائل من الماضي بأشكال غير متوقعة، لتذكرنا بأن هناك دائمًا خيوطًا خفية تربطنا بمن أحببنا، وبأن الذكريات الجميلة هي كنوز لا تفنى، قد يوقظها مرسال مجهول ليضيء ما تبقى من أيامنا. العم صالح وجد في حفيد صديقه ضوءًا جديدًا، وأدرك أن الصداقة الحقيقية، كبذور الياسمين، حتى وإن جفت، تظل رائحتها تعبق في الذاكرة، وقد تُزهر من جديد في غير أوانها.